برمجة اللغوية العصبية مصطلح نسمعه كثيرًا هذه الأيام،
وقد يتضح معناه في أذهان البعض، ويتوه أو يختفي تمامًا في أذهان البعض
الآخر، لكن الجميع يتفق على أنه مصطلح مهم جدًا في عوالم التنمية البشرية،
أما من يعرفون تمامًا معنى البرمجة اللغوية العصبية، فهم يقولون إنها هي
التعليمات لبرمجة العقل والتفكير أو هي علم التفوق والنجاح، علم التغيير
والتأثير.
وباختصار شديد يمكننا أن نقول إنها نموذج وطريقة منظمة لمعرفة تركيب
النفس الإنسانية والتعامل معها بوسائل وأساليب محددة؛ حيث يمكن التأثير
بشكل حاسم وسريع في عملية الإدراك والأفكار والشعور، وبالتالي في السلوك
والمهارات والأداء الإنساني الجسدي والفكري والنفسي.
وفي شهر القرآن يمكننا أن نفهم كيف كان القرآن الكريم يبرمج ويضع
أسس البرمجة اللغوية العصبية للبشر جميعًا، وفي هذا المقال أسير باختصار مع
أسس البرمجة اللغوية العصبية من القرآن الكريم.
فأول تلك الأسس التي يعتمد عليها بشكل قطعي: الخريطة الذهنية، فكل
واحد من الناس ينظر للحياة كما يتصورها هو، وليس كما هي كائنة في الحقيقة،
فإذا غيّرت الخريطة الذهنية للإنسان غيرت واقعه حوله، تمامًا كمن يخسر مالا
في تجارة، فإنه يشعر بالأسى والحزن، لكنه حين يعرف أن هذا المال كان سيؤدي
إلى موته على يد اللصوص وقطاع الطرق فإنه يتحول إلى السعادة والفرح.
ولعل أوضح إشارة إلى الخرائط الذهنية وتغيير الواقع، يظهر في قوله تعالى: {إنّ اللهَ لا يغيّرُ ما بقومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسِهِم}، فسنة التغيير أن يبدأ من داخلنا أولا، ثم يغير الله لنا الواقع حولنا.
وفي سورة الأنعام يقول تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
فالمولى يرشد الإنسان إلى أول خطوة في برمجة خريطته الذهنية، أن يكرر على
نفسه ما يريد أن يعيشه، أن يقول لنفسه ما يريد أن يراه في واقعه، فتكرار
المقولة يؤدي إلى الإيمان بها، ومن ثم إلى تخيلها في الخريطة الذهنية، ثم
إلى وجودها في تصرفاته، وبالتالي في واقعه.
وحتى يصبح مفهوم الخرائط الذهنية واضحًا، وكيف يمكن للإنسان أن يصنع
خريطته الذهنية المناسبة عن العالم، كان لازمًا أن يتمتع هذا الإنسان
بالفكر الإيجابي المرن، بحيث يتفهم ما يحدث حوله وينظر إليه نظرة منطقية
إيجابية، فلكل حدث وجهان، أحدهما يسوء بظاهره، والآخر إيجابي نافع، كما ذكر
لنا سبحانه في سورة الكهف، حينما شرح العبد الصالح لسيدنا موسى أسباب
تصرفاته مع السفينة والغلام والجدار، فبعد هذا الشرح تغيرت الخريطة الذهنية
لدى سيدنا موسى، ورأى الواقع بشكل مختلف عن نظرته الأولى، نتيجة لمرونته
في التفكير، وتبدل تفكيره إلى التفكير الإيجابي الفعّال.
ومن أهم افتراضات البرمجة اللغوية العصبية أن تكرار نفس الفعل يؤدي
دائمًا إلى نفس النتيجة، وبالتالي حين تريد تغيير النتائج حولك فعليك أن
تغير أفعالك، فمن كان يبحث عن المال مثلا بطريقة ما أو بعمل ما ولا يحقق ما
يريده من نتائج فعليه أن يغيّر طريقته في البحث عن المال، فطريقته الأولى
لن تصل به إلا إلى نفس النتائج المرفوضة منه، وهذا الافتراض يتضح جدًا في
حديث المولى سبحانه وتعالى عن قوم سيدنا يونس، اقرأ قوله تعالى: {فَلَوْلَا
كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ
لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} فلم يحدث أن تؤمن قرية
كاملة وينفعها هذا الإيمان، إلا قرية سيدنا يونس، فإنهم لما شعروا باقتراب
العذاب الذي توعدهم يونس به، لجأوا لله سبحانه وتعالى بطريقة جديدة لم
يصنعها أحد قبلهم، فأخذوا يبكون جميعًا في تضرع وخوف، وأعلنوا إيمانهم
إعلانا صريحا، فما كان من الرحمن إلا أن غفر لهم وكشف عنهم العذاب، فما حدث
منهم أنهم خالفوا تصرفات من قبلهم من الأمم التي كانت تصرّ على عنادها،
وبالتالي كانت تصل إلى نفس النتائج من العذاب والدمار.
وهنا أصل إلى الافتراض الرابع، ولعله أهم افتراضات البرمجة اللغوية
العصبية، وهو افتراض النمذجة، أي أن ما يستطيعه إنسان يستطيعه الآخرون بشرط
أن يسيروا كما سار، وينفذوا ما نفذ، وبالتالي فلا يوجد ما يسمى بالمستحيل
على شخص، وممكن لشخص آخر، فما حققه العظماء والناجحون في حياتهم، يمكنك أن
تحققه أنت أيضا بشرط أن تسير على خطاهم وتتبع نهجهم.
يقول المولى سبحانه وتعالى في سورة الممتحنة: {قَدْ كَانَتْ
لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ
قَالُوا لِقَوْمِهِمْ أنا بُرَآء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ
وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلّا قَوْلَ
إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ
اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا
وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فسبحانه يشير إلى قوم إبراهيم توضيحًا
للمؤمنين في كيفية التعامل مع أهلهم من الكفار وغير المسلمين، فلا عداوة
ولا محاربة إلا الدفاع عن النفس، ويؤكد المولى هذا المعنى في قوله في نفس
السورة: {َقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن
كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِنْهُمْ مَّوَدَّةً وَاللَّهُ
قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فالمولى يضع شروط النموذج الكامل، لا نؤيد تصرفاتكم الكافرة، ولا نعاديكم، بل ندعوكم بالحسنى ولعل الله أن يهديكم.
ثم أصل إلى افتراض من أهم افتراضات البرمجة اللغوية العصبية، وهو
التعامل مع الناس، والتواصل مع الآخرين، فأنت لست وحيدًا في هذه الحياة،
ولا يمكنك أن تعيش دون أن تتواصل مع الآخرين، تتفاعل معهم فتتأثر وتؤثر،
فكيف تحفظ نفسك من مؤثرات البعض السلبية، وكيف تصبح فعالا بتأثير إيجابي في
الناس؟
يقول تعالى: {قُلْ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءكُمُ
الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمۡ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ
وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا۟ عَلَيْكُم
بِوَكِيلٍ}.
يضع المولى سبحانه وتعالى منهجًا في التعامل مع الناس في كثير من
آيات القرآن الكريم، ولعل كلمة الناس التي ذكرت في القرآن مائة وثلاثُا
وسبعين مرة توضح كيف اهتم القرآن برسم حدود التعامل مع الناس، وفي الآية
السابقة على سبيل المثال بيان لتلك الحدود، فيقول المولى لنبيه أن ينذر
الناس، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فعليها، وما هو عليهم بوكيل،
فما بالك بنفسك أنت يا أخي؟ كيف تنصب نفسك وكيلا على أحد من معارفك؟ وكيف
تتأثر بغيرك من الناس غير الإيجابيين، اثبت على منهجك تصل إلى غايتك.
وختامًا صدق الله العظيم إذ قال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا في هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلًا}.