الفصل الثاني : حقيقة أم خيال
منذ تسعة وعشرين قرنا من الزمان , وحوالي عام 850 ق.م ، أي قبل ( أفلاطون ) بخمسمائة عام ، كتب الشاعر العظيم ( هوميروس ) ملحمتين عظيمتين ، هما ( الإلياذة ) و ( الأوديسة ) ..
وانبهرت الدنيا بما كتبه ( هوميروس ) , وانشغل الأدباء عبر العصور بخياله الجامح , وانهمك الدارسون لقرون وقرون ، في تحليل أفكاره وعباراته , وتصوراته البديعة المرهفة , ويتفاعلون بعقولهم وقلوبهم مع أسطورة المدينة الخيالية ( طروادة ) ، وذلك النسيج المبدع من الأفكار , الذي أحاط به ( هوميروس ) قصة حربها , بخيال جامح مثيرجميعنا يعرف هذه الحضارات القديمه ولكن السؤال كيف اختفت وما ذا حدث ..
ومع مرور السنوات والقرون ، وقر في العقول والقلوب والأذهان أن ( طروادة ) هذه مكان خيالي , وأن حربها ليست سوى إبداع شاعر عظيم ، و ...
وفجأة , في عام 1871م ، جاء الأثري الألماني ( هينديش شليمان ) ؛ ليهدم كل هذا رأسا على عقب ، ويباغت العالم بحقيقة جديدة ..
حقيقة ( طروادة ) ..
ففي ذلك العام , وفي منطقة ( هيسارليك ) في شمال غرب ( تركيا ) , وفي نفس الموقع الذي حدده ( هوميروس ) في ملحمتيه الشهيرتين , كشف ( شليمان ) بقايا ( طروادة ) ..
كان الكل يسخر منه , عندما راح يبحث عن مدينة خيالية , حاملا معوله في يد , وملحمة ( هوميروس ) في اليد الأخرى , واتهموه بالحماقة والجنون , لأنه يبذل كل هذا الجهد , استنادا إلى ملحمتين أدبيتين , وليس إلى مراجع علمية أو تاريخية مؤكدة ..
ولكن ( شليمان ) فعلها , وعثر على ( طروادة ) , وانتشلها من بين الأنقاض , ومن تحت المال والركام ..
وهنا خرست كل الألسنة المعارضة والساخرة ..
وتحدثت ألسنة أخرى ..
ألسنة راحت تتساءل : لو أن ( طروادة ) , التي تعامل معها الكل باعتبارها خيال محض ، قد برزت من تحت الرمال، كحقيقة واقعية , تتحدى كل معارض , فماذا عن ( أطلانطس ) ؟!
هل يمكن أن تكون بدوها حقيقة؟!
هل؟!
هذا السؤال طرحه جمع هائل من العلماء , ومن الباحثين والدارسين ، والمهتمين بتاريخ وأسطورة ( أطلانطس ), وعلى رأسهم ( إيجنانيوس دونيللي ) ..
و ( دونيللي ) هذا شاب حاذق , ولد في ( فيلادلفيا ) الأمريكية ، عام 1831م ، وأثبت نشاطا وذكاء غير عاديين , طوال فترات صباه وشبابه ، حتى إنه استطاع أن ينضم إلى رابطة المحامين ، في الثانية والعشرين من عمره ، وهذا ما لم يكن يبلغه المجتهد حينذاك , قبل الثلاثين على الأقل ..
وفي الثامنة والعشرين من عمره , وإثر اهتمامه بالسياسة وشئونها ، تم انتخاب ( دونيللي ) كحاكم لولاية (مينوسيتا) ، وبعدها بأربع سنوات ، أصبح عضوا في ( الكونجرس ) ، الذي قضى فيه دورتين كاملتين ، مدتهما ثماني سنوات ، اشتهر خلالها بأنه خطيب مفوه ، ونائب محترم , ومحاور قادر على جذب انتباه واهتمام وتقدير واحترام كل من يتعامل معه ..
وعلى الرغم من كل هذا , كان ( دونيللي ) يعاني من وحدة شديدة ، بعد وفاة زوجته وانتقاله إلى ( واشنطن ) فراح يقضي كل وقته في القراءة , ويلتهم كتب مكتبة ( الكونجرس ) التهاما ..
ومن بين عشرات الموضوعات التي قرأها ودرسها ( دونيللي ) جذب انتباهه , وخلب لبه , وأشعل عقله موضوع واحد ..
( أطلانطس ) ..
وبنهم لا مثيل له , راح ( دونيللي ) يقرأ كل ما كتب عن ( أطلانطس ) في عشرات ، بل مئات الكتب ، ثم راح يجري دراساته الخاصة حولها , واهتم بشدة بكشف ( شليمان ) لبقايا ( طروادة ) ثم جمع كل هذا , بعد سنوات من العزلة و الدراسة , ليصدر كتابه ( أطلانطس وعالم ما قبل الطوفان ) في صيف عام 1882م ..
وفي صدوره ؛ ولأنه يحوي خلاصة عمر بأكمله , حقق هذا الكتاب شهرة واسعة ، ونجاحا منقطع النظير ، مما شجع ( دونيللي ) على أن يصدر ، في العام التالي مباشرة ، كتابه الثاني ( راجناروك .. عصر النار والدمار ) الذي ناقش وفند الكوارث الطبيعية ، التي يمكن أن تكون السبب , في دمار وغرق ( أطلانطس ) ..
وتعددت طبعات كتب ( دونيللي ) , وأيقظت عشرات التساؤلات في الرؤوس , وأشعلت عشرات الاستفسارات والاقتراحات ، خاصة وأنه قد ربط ما بين حضارات العالمين القديم والجديد ، وأثبت على _ نحو نظري _ أنه كان هناك حتما اتصال ما بين ( أوروبا ) والأمريكتين ، يتم عبر قارة وسيطة , هي ( أطلانطس ) ..
وف نظريته , افترض ( دونيللي ) أن ( أطلانطس ) كانت لها مستعمرات عديدة ، خارج حدودها ، وأن أقدمها هي (مصر) ، التي أكدت أن حضارتها هي صورة طبق الأصل ، من حارة ( أطلانطس ) القديمة ..
فقد كان يتصور ( دونيللي ) أن الحضارة المصرية القديمة قد ظهرت فجأة ، وأنها لم تمر بمراحل التطور المعتادة لكل حضارة ، وأن علومها قد نبتت من منبع مجهول ، مما جعله يفترض أن ذلك المنبه هو ( أطلانطس ) نفسها ..
إذن ، ففي رأيه نظريته ، كانت ( أطلانطس ) هي أم الحضارات ، وزعيمة العالم القديم _ إن صح القول _ والأصل الذي انتقلت أفرعه فيما بعد ، إلى كل مكان في العالم ..
وعلى الغم من أن أساطير مختلف الشعوب , تتفق فيما بينها على أن هناك حضارة قديمة فائقة , تفوقت يوما على كل من حولها , إلا أن ( أفلاطون ) نفسه ، في محاورتيه الشهيرتين ، لم يزعم أن ( أطلانطس ) هي أصل كل الحضارات , بل ولم يشر إلى ذلك حتى ..
ولذا فقد قوبلت نظرية ( دونيللي ) بتأييد شديد , من عدة جهات , وبهجوم عنيف للغاية من جهات أخرى ..
وكما يحدث لكل مفكر , يتجاوز الحدود المعتادة في عصره , تحول ( دونيللي ) إلى قديس في نظر البعض ، وإلى شيطان في نظر البعض الآخر ، إلا أن هذا لم يمنع الجانبين من الاعتراف , بأنه أول من وضع قواعد البحث عن قارة ( أطلانطس ) وأسطورتها المفقودة ، وأول من أسس ما يعرف باسم ( الأطلانطية ) ( Atlantiology ) أو العلم الذي يبحث أسس الحضارة الأطلانطية القديمة , ودلائل واحتمالات وجودها ، وهو علم معترف به ، في كافة أنحاء العالم المتحضر ..
وفي الوقت الذي احتدمت فيه المناقشات والمحاورات ، حول ( دونيللي ) ونظريته ، والذي بدأ فيه بعض الباحثين يعلنون أخطاءها ، ونقاط الضعف والغموض فيها ، وينشرون نظرياتهم المناهضة لها ، والحقائق العلمية المرتبطة بها ، فاجأ الأثري البريطاني سير ( آرثر إيفانز ) العالم كله بحقيقة جديدة , رجته من الأعماق ..
فمنذ سنوات طوال ، نقل الأثريون والمؤرخون أسطورة قديمة ، تدور في جزيرة ( كريت ) حول حب الملك (مينوس) ابن ( زيوس ) كبير الآلهة ، من بشرية تدعى ( أوروبا ) , وحول إنسان آلي من البرونز ، له جسم آدمي , ورأس ثور , كان يجوب شواطئ ( كريت ) الصخرية ، ليبعد عنها الغزاة , ويلقي على سفنهم الصخور الضخمة ..
وفي الوقت نفسه , كان هناك وحش آخر , يدعى ( المينوتورس ) ، له أيضا جسد إنسان ورأس ثور , سجنه الملك ( مينوس ) في قصر التيه ، أو ( اللابيرنث ) حيث يتم تقديم سبعة من خيرة شباب ( اليونان ) وسبع من خيرة بناتها كقربان له كل عام ، حتى جاء الفارس المغوار ( ثيسيوس ) ، فتحداه , وذبحه , وحفظ دماء شباب وبنات اليونان ..
أسطورة مبهرة مثيرة ، ككل الأساطير القديمة ، خلبت الألباب ، وحبست الأنفاس ، وشغلت العقول لقرون وقرون ، باعتبارها أيضا قريحة عقول متفوقة ، ونتاج خيال جامح , و ...
وفجأة ، نقل سير ( إيفانز ) كل هذا فجأة إلى عالم الواقع ..
ففي عام 1900م ، وبقيادة ( إيفانز ) ظهرت أطلال وآثار الحضارة المينوية القديمة في ( كريت ) ..
ذلك الكشف أثبت أن أهل ( كريت ) كانوا سادة عظام ، وتجارا ومستعمرين ، أخضعوا جيرانهم ، وحصلوا منهم على الجزية ..
وأثبت أيضا أن قصة ( مينوس ) لم تكن مجرد أسطورة ..
لقد كانت حقيقة ..
حقيقة تقلب كل الحسابات رأسا على عقب ..
وخصوصا حسابات الباحثين عن ( أطلانطس ) ..
وقبل أن يلتقط الناس أنفاسهم , ويستوعبوا كشف سير ( آرثر إيفانز ) المدهش ، كانت في انتظارهم مفاجأة جديدة..
اتمنى من الجميع من يعرف معلومات عن القارات المفقوده ان يضعها