الفصل الثالث : حضارة الرمال
في عام 1861م , كشف علماء الآثار أطلال قصر الملك ( آشور بانيبال ) , حاكم مملكة ( آشور ) , في القرن السابع قبل الميلاد ، وبين تلك الأطلال ، عثروا على أعظم كشف أثري وثقافي في المنطقة ..
عثروا على مكتبة كاملة سليمة تحوي آلاف الألواح الطينية , المكتوبة بأسلوب الكتابة المسمارية القديمة , والتي تضم ثروة هائلة من المعلومات , عن مختلف الأمور , وعلى رأسها قوائم وسجلات كاملة لأسماء المدن والأقاليم , والآلهة التي كانت تعبد أيامها , هذا إلى جانب مئات القصائد , وعشرات الأساطير , والقواميس أيضا ..
قواميس باللغة الآشورية ، وبلغات أقدم منها ، كالبابلية والسومرية , وقواميس تضم كلمات أشورية ومعانيها بلغات مختلفة , بل وطرق نطقها أيضا..
خمسة وعشرون ألفا , من الألواح المعرفية , تم نقلها جميعا إلى المتحف البريطاني في ( لندن ) , لوضعها تحت بصر ويد الباحثين , وعلماء اللغات القديمة ..
ومن بين عشرات العلماء , الذين انبهروا بهذه الذخيرة الأثرية المدهشة ، والذين قضوا عمرهم كله ، في دراسة الألواح والوثائق وترجمتها ، كان العالم البريطاني ( راولونسون ) , الذي عثر على اسم تردد أكثر من مرة فيها , وهو اسم ( ديلمون ) ..
لم يكن الاسم جديدا أو غريبا ، فقد تم العثور عليه قديما , في نقش على جدار قصر الملك ( سرجون الأشوري ) يسجل فتوحات الملك وانتصاراته الحربية ..
وعلى الرغم من أن أحدا سواه ، لم يتوقف كثيرا عند اسم ( ديلمون ) , فقد انشغل ( راولونسون ) به كثيرا , وراح يجمع المعلومات عن حضارة ( ديلمون القديمة ) التي وردت في النقوش القديمة , باعتبارها جنة الله في الأرض ..
ففي ( ديلمون ) كما تقول النقوش والأساطير , كانت الأرض دوما نظيفة ومشرقة , وكل شيء جميل وهادئ , حتى الأسد لا يفترس , والذئب يصادق الحمل , ولا أحد يمرض , أو يتألم , أو يبلغ من العمر عتيا ..
والحسناء في ( ديلمون ) لا تحتاج إلى الاستحمام ؛ لأن كل شي نظيف طاهر , والماء متلألئ , والدموع لا تزور العيون , و ... و ...
وصف أسطوري ومثالي للغاية , جعل ( ديلمون ) تبدو أشبه بأسطورة خيالية ، منها بحقيقة واقعية , يمكن الاقتناع بها , أو تصديق وجودها ..
ولكن ( راولونسون ) نشر أبحاثا تشير إلى العكس تماما , ووحده من دون كافة علماء الآثار , ظل يؤكد أن (ديلمون) حقيقة , بل ورصد طبيعتها , وآلهتها , وعلى رأسهم الإله ( أنزاك ) ..
وكالمعتاد , سخر الكل من أبحاث ( راولونسون ) ودراساته ، واتهمه البعض بالإغراق في الخيال , والغوص في عالم الأحلام ..
ثم جاء عام 1880م ، ليكتشف الرحالة البريطاني ( كابتن ديوراند ) حجرا قديما ، في مسجد في البحرين ، عليه كتابة مسمارية قديمة ، تمت ترجمتها بمنتهى الدقة لتظهر عبارة تقول :
((([ريمانوس] خادم الإله [أنزاك] ، من قبيلة عقير)))
وهنا ، تبدلت كل الآراء , وبدأ السؤال يطرح نفسه بشدة ..
ما حقيقة ( ديلمون ) ؟!
أهي حقيقة أم مجرد أسطورة , وردت في النقوش القديمة ؟؟
وكإجراء طبيعي , كلفت الجمعية الملكية الآسيوية ( راولونسون ) بهمة تحليل تقرير ( ديوراند ) ، والتعليق عليه.. وفي تقرير ، ربط ( راولونسون ) ما بين ( ديلمون ) و( البحرين ) , وأكد أن الأخيرة تنهض على أطلال الأولى ..
وفي عام 1900م ، ومن خلال بعثة أمريكية , من جامعة ( بنسلفانيا ) ، عثر ( هيلير يخت ) رئيس البعثة على خمسة وثلاثين ألف لوح سومري تحوي طنا من آخر المعلومات في ( نيبور ) وهي منطقة ما بين النهرين ، من بينها نص سومري ، يشير إلى ( ديلمون ) باعتبارها أرض العبور ، والمكان الذي تشرق منه الشمس ..
ولقد عاصر ( إيجنايتوس دونيللي ) هذا الكشف العظيم , وربط آخر مقالاته بين ( أطلانطس ) و ( ديلمون ) قبل أن يتوفاه الله تعالى في عام 1901م , تاركا الأمر كله لمن بعده ..
أما حضارة ( ديلمون ) نفسها , فقد انتظرت حتى الحرب العالمية الثانية , عندما أتى ( د. بيتر كورونوال ) لينقب في تلال المدافن في ( البحرين ) ، ويخرج بالأدلة والبراهين القاطعة على أن حضارة ( ديلمون ) لم تكن مجرد أسطورة , بل هي حقيقة , أعلنت عن نفسها , وأبرزت وجودها وآثارها للعالم كله ..
الأساطير إذن , تتحول ، واحدة بعد الأخرى , من عالم الخيال , إلى عالم الواقع والوضوح ..
( طروادة ) ..
و ( المينوتورس ) ..
و ( ديلمون ) ..
فماذا إذن عن ( أطلانطس ) ؟؟
ما الذي يمنع كونها أيا حقيقة واقعية , لقارة حكمت الدنيا يوما , قبل أن تودي بها كارثة رهيبة ، طبيعية أو صناعية ، فتغرق بكل ما فيها , ومن فيها , في أعمق أعماق المحيط الأطلسي ؟!
هذا ما طرحه الميثولجي الأسكتلندي ( لويس سبنس ) في مجلته ، ذات العمر القصير ، والتي حملت اسم الأسطورة نفسها ..
اسم ( أطلانطس ) ..
وعلى الرغم من أن ( سبنس ) هذا لم يحظ بالشهرة الشعبية ، والتي حظي بها نظيره ( دونيللي ) ، إلا أنه كرس جهوده للبحث عن القارة المفقودة , ووضع خمسة كتب حولها ، كان أشهرها ( مشكلة أطلانطس ) ، الذي نشر عام 1924م ، والذي فاز ( سبنس ) بسببه باحترام وترحيب المهتمين بأسطورة ( أطلانطس ) ، حتى إن أحدهم قال عنه : إنه أفضل كتاب نشر عن ( أطلانطس ) في التاريخ ..
وعلى عكس نقاط نظرية ( دونيللي ) الحماسية ، ناقش ( سبنس ) نظريته بأسلوب هادئ ، وعملي ، ودقيق ، شأن أي عالم محترم ؛ ليخلص منها إلى مجموعة من الحقائق ، تتلخص في أنه كانت هناك بالفعل قارة ضخمة ، تحتل منطقة شمال المحيط الأطلسي , وجزءا من جنوبه ، ولقد ظلت موجودة حتى أواخر العصر الميوسيني ، الذي يعود إلى ما يزيد على عشرة ملايين عام ، ثم بدأت تندثر ، نتيجة لعوامل طبيعية ، بركانية وزلزالية متعاقبة ، مما أدى إلى ظهور تكتلات جزرية , أهمها ( أطلانطس ) , بالقرب من مداخل الحر الأبيض المتوسط , وخلف أعمدة (هرقل) و( أنتيليا ) ، القريبة من جزر الهند الغربية الحالية ، وكانت الاتصالات تتم بينهم , عبر سلسة من الجزر الصغيرة..
ووفقا لنظرية ( سبنس ) ، لم تختف ( أطلانطس ) في يوم وليلة , كما قال ( أفلاطون ) , ولكنها ظلت قائمة , حتى العصر البليستوسيني ، قبل خمسة وعشرين ألف سنة ، تعرضت لمجموعة من الكوارث الطبيعية المتعاقبة ، حتى ما يقرب من عشرة آلاف سنة قبل الميلاد , مما أدى في النهاية إلى غرقها نهائيا , في حين طلت ( أنتيليا ) صامدة لزم أطول , لتترك خلفها بعض البقايا النهائية , وهي جزر ( الأنتيل ) ..
وعلى عكس ( دونيللي ) قال ( سبنس ) إن حضارة ( أطلانطس ) لم تكن متقدمة تماما , وإنما كانت حضارة بدائية إلى حد كبير , إنها لم تعرف أبدا تشكيل أو استخدام المعادن ..
ووفقا لنظريته أيضا ، انتشر سكان ( أطلانطس ) ، بعد غرقها ، في أنحاء العالم القريبة , وكانوا النواة لعدد من الحضارات المعروفة ، مثل حضارة ( مصر ) ، و ( كريت ) , والحضارة الأزيلية في ( أوروبا ) ، والتي ظهرت قبل عشرة آلاف عام قبل الميلاد ، وهو نفس التاريخ _ تقريبا _ الذي حدده ( أفلاطون ) لغرق ( أطلانطس ) ثم عاد (سبنس) ليؤكد أن حضارات ( مصر ) و ( يوكاتان ) و ( بيرو ) قد ظهرت فجأة , ودون مقدمات ، لتنتقل من العصر الحجري إلى عصر التقدم , دون المرور بمراحل وسيطة , مما يوحي بأنها قد اكتسبت حضارتها من جهات أخرى ..
وهنا يقع ( سبنس ) في تناقض عجيب ، ما بين عدم تقدم ( أطلانطس ) , ونقلها علامات الحضارة إلى الآخرين ، ولكنه , على الرغم من هذا ، يحظى حتى هذه اللحظة ، باحترام وتقدير العديدين ، وإن لم يقدم دليلا ماديا واحدا على كل ما قاله ..
ولم يقدم غيره أيضا هذا الدليل المنشود ..
حتى ظهر ( إدجار كايس ) ..
ولقد قدم ( كايس ) الدليل بأسلوب مدهش ، لم يتصوره أو يتخيله أي مخلوق واحد ..