الفصل الرابع : النبوءة
مع بداية العقد الثاني , من القرن العشرين ، تضاعف اهتمام الأمريكيين فجأة بالتنبؤات والمتنبئين , وعادوا ينبشون المكتبات وكتب التاريخ بحثا عن مشاهير المتنبئين القدامى ، وانتشرت صرعة عجيبة لإثبات صحة تنبؤاتهم الماضية , وتأكيد حتمية حدوث تنبؤاتهم التالية ..
وفي مناخ كهذا , من الطبيعي أن ينتشر الجدل والخداع , وأن يظهر عشرات النصابين , الذين يدعون قدرتهم على قراءة الطالع ، وكشف الغيب , والتنبؤ بالأحداث المستقبلية ، خاصة وأن أحدا لا يمكنه معرفة ما سيحدث في المستقبل , مما يجعل الاعتراض على ما يقوله أي نصاب أمرا عسيرا للغاية ..
وفي وسط هذا كله , ظهر ( إدجار كايس ) ..
كان شابا هادئا , على عكس الآخرين , لا يميل إلى الاستعراض والتباهي , ويحمر وجهه خجلا كالعذراء , إذا ما وجه إليه أحدهم عبارة استحسان , أو كلمات إعجاب وتقدير , أو حتى جملة شكر أنيقة ..
وعلى عكس الآخرين أيضا , لم يكن ( كايس ) من ذلك النوع , الذي يمكن أن تلق عليه سؤالا عن أحداث مستقبلية فيضع أصابعه على جبهته , ويدير يده الأخرى في الهواء , ثم يخرج الجواب بأسلوب مسرحي مثير , بل كان يؤكد دوما أن التنبؤات أو الرؤى ، كما كان يحلو له تسميتها , تأتيه وقتما يشاء , وليس عندما يشاء هو ..
ففي لحظات عادية ، كان ( كايس ) يصاب بشرود مباغت ، وتنقلب عيناه داخل محجريهما ، على نحو عجيب , ويدخل فيما يشبه الغيبوبة ، وخلالها يلقي نبوءته , ثم لا يذكر الكثير عنها , عندما يستعيد وعيه بعد قليل ..
لأن ذلك الزمن كان يميل إلى المسرحية والاستعراض , تأخر ( كايس ) عن أقرانه , ولم يحظ بشهرتهم ، أو تلقي عليه الأموال الوفيرة مثلهم ..
ثم إنه أيضا لم يسع لهذا أبدا ..
حتى كانت فترة الثلاثينات , وما صحبها من اختناق اقتصادي رهيب , في الولايات المتحدة الأمريكية ..
أيامها ، وبينما راح البعض ينبش في تنبؤات ( نوستراداموس ) العراف الفرنسي الأشهر , بحثا عن أية نبوءة , تتحدث عن انفراج الأزمة , كشف أحدهم فجأة , أن كل تنبؤات ( كايس ) خلال السنوات العشر الأخيرة ، قد تحققت على نحو مدهش ، وفي نفس التوقيتات التي حددها في نبوءاته ..
وهنا تفجرت الشهرة فجأة ..
ومن كل صوب ..
واستيقظ ( كايس ) ذات صباح ، ليجد الصحفيين يحيطون بمنزله ، ومصابيح تصويرهم تسطع في وجهه ، وعشرات الأسئلة تنهال على أذنيه ..
وفي اليوم التالي ، كان ( كايس ) ضيفا على خمس شبكات إذاعية ، وصوره تملأ الصفحات الأولى ، في خمس وسبعين صحيفة , محلية وعامة ..
وخلال أسبوع واحد ، أصبح ( إدجار كايس ) أشهر عراف ، ليس في ( أمريكا ) وحدها , ولكن في العالم أجمع ..
ولسنا هنا بصدد سرد تنبؤات ( كايس ) , أو التحمس لها ، أو حتى مناقشة صحتها من عدمها ، ولكننا سنتوقف فقط عند نبوءة واحدة ، ترتبط ارتباطا وثيقا مباشرا , بالأسطورة التي نتحدث عنها ..
أسطورة ( أطلانطس ) ..
ففي يونيو عام 1940م ، وفي أثناء واحدة من نوبات غيابه عن الوعي ، الذي جعلته يوصف بأنه وسيط روحاني قوي ، أعلن ( كايس ) أن ( أطلانطس ) حقيقة , وأن أجزاء منها سوف تبرز من قلب المحيط الأطلنطي , في عام 1968م ، أو 1969م , وحدد تلك الأجزاء بأنها من الطرف الغربي للقارة الأسطورية , والمسمى ( بوسيديا ) ، وأنها ستظهر بالقرب من جزر ( البهاما ) ..
وأدهشت النبوءة العديدين , حتى أولئك الذين يؤمنون تماما بموهبة ( كايس ) , إذ لم تكن الظروف تحتمل الحديث عن أمر كهذا , والذي كان يتوقع منه نبوءة حول نهاية الحرب العالمية الثانية , التي بلغت أوجها حينذاك , والتي كادت تلتهم العالم كله ..
الكل كان ينتظر حديثا عن ( ألمانيا ) النازية ، أو ( هتلر ) ، أو حتى عن سقوط ( إنجلترا ) , فإذا به يتحدث عن (أطلانطس) وظهورها المنتظر , بعدما يزيد عن ربع قرن قادم من الزمان ..
وتجاهل معظم الناس نبوءة ( كايس ) حول ( أطلانطس ) ، وألقوها خلف ظهورهم ، وخصوصا مع تنبؤاته التالية ، التي أشارت أن الولايات المتحدة سترغم على دخول الحرب ، وأن ( روسيا ) ستسقط جزئيا في قبضة النازيين ، قبل أن تنهض لتهزمهم شر هزيمة فيما بعد ..
حتى المهتمين بعلوم قارة ( أطلانطس ) لم يتوقفوا كثيرا عند نبوءة ( كايس ) ، باعتبارها عن مستقبليات ، لا سبيل إلى التأكد منها في زمنهم ، أو حتى إيجاد المنطق العلمي لحدوثها بعد ..
ومرت السنوات ، وتحققت نبوءة ( كايس ) الخاصة بالحرب , ودخلت ( أمريكا ) الحرب العالمية الثانية مرغمة ، بعد أن قصف اليابانيون ميناء ( بيرل هاربور ) واجتاح النازيون ( روسيا ) ، ثم اندحروا على أبواب ( موسكو ) وراحوا يتراجعون ، وسط البرد والجليد , ليلقوا هزيمة ساحقة فيما بعد ، دفعت ( هتلر ) نفسه إلى الانتحار ..
ووسط هذا الخضم من الأحداث , نسى الكل نبوءة ( كايس ) الخاصة بقارة ( أطلانطس ) ..
نسوها تماما ..
ولكن عام 1968 جاء ، وظهرت معه تلك البقايا ، التي برزت من قلب المحيط ، بالقرب من جزر ( البهاما ) ..
تماما في نفس الزمان والمكان ، اللذين حددهما ( كايس ) في نبوءته القديمة ، منذ ما يزيد عم ربع القرن ..
ونستطيع أن نؤكد ، دون ذرة واحدة من المبالغة ، أن الخبر قد حبس أنفاس جميع الأمريكيين , والكاميرات تنقل صورة الأبنية الحجرية ، والأطلال القديمة , التي ظهرت بالقرب من سطح الماء ، عند شاطئ جزية ( بايمين ) ، إحدى جزر ( البهاما ) , وتسترجع مع المشاهدين نبوءة ( كايس ) القديمة , ثم تضيف إلى هذا آراء الخبراء وعلماء الآثار, الذين أكدوا أن طرز تلك المباني ، لا تشبه أية طرز حضارية قديمة معروفة ..
وكان هذا يعني أمرا واحدا لا غير ..
أن هذه بالفعل أطلال ( أطلانطس ) القديمة ..
وأن ( أطلانطس ) حقيقة ..
ومن سوء الحظ أن تلك الأطلال لم تبق في موضعها طويلا , إذ سرعان ما غاصت مرة أخرى في أعماق المحيط ، وعلى مسافات لم يكن من الممكن أن يبلغها بشر قط ..
فقط بقيت الصور , وتعليقات الخبراء , ونبوءة ( كايس ) القديمة ، وخيال وعقول الملايين ..
ولأن الوقت لم يسمح للعلماء والدارسين والباحثين بالتيقن من الأمر , والحصول على أدلة مادية , فقد بدؤوا يختلفون حول الأمر , بعد أسبوع واحد من غوص الأطلال ، عائدة إلى أعمق الأعماق ..
البعض استنكر الأمر كله ، وأصر على أنها مجرد مصادفة ، قد يبلغ احتمالها الواحد في كل ستة ملايين ، ولكنه احتمال وارد وقائم , وبخاصة مع غياب أي دليل مادي آخر ..
أما البعض الآخر فقد اقتنع تماما بما حدث ، واعتبر أن هذا أقوى دليل على وجود ( أطلانطس ) في تاريخ الأسطورة كلها ..
وبين أولئك وهؤلاء ، وقف ( تشارلز بيرلتز ) ..
و ( بيرلتز ) هذا بدأ حياته العملية كمترجم ، ثم لم يلبث أن اهتم بالظواهر الغريبة , والأمور غير المحسومة , في عالمنا الضخم , وشغف كثيرا بتعقب كل أمر غامض , والسعي خلف كل لغز عميق , بحثا عما يؤيده أو ينفيه ..
ومن هذا المنطلق , ولأن كتابه عن ( مثلث برمودا ) قد حقق نجاحا مدهشا , ومبيعات لم يحلم بها كاتب مثله , قرر ( بيرلتز ) , الذي هو في الوقت ذاته غواص بارع ، أن يغوص بنفسه , مع فريق من المعاونين ، في منطقة جزر (البهاما) ، بحثا عن أي دليل مادي ، على وجود ( أطلانطس ) ..
ولقد رفض العلماء التعليق على محاولة ( بيرلتز ) ، وتأييدها أو استنكارها , واكتفوا بالصمت ، وبهز الأكتاف في استهتار , وكأنهم خشوا اتخاذ موقف واضح , تثبت التطورات عكسه , فتهتز صورتهم في عيون الآخرين ، وتضيع هيبتهم ومصداقيتهم ، كعلماء لهم وزنهم في مجالاتهم ..
وغاص ( بيرلتز ) وفريقه ..
غاص في منطقة جزر ( البهاما ) , وحولها , و ...
وكانت في انتظارهم مفاجأة مذهلة ..
مفاجأة لا يمكن أن تخطر على عقل مخلوق ..