الرسول والشعر:
لقد بسطنا كيف تناول القرآن الشعر فلم نعد نحتاج للاستفاضة في موقف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من هذا الفن إذ أنه موقف القرآن عينه ، اللهم إلا إذا أوردنا آثارا من السنة تشرح وتعضد موقف التنزيل ، فلم يكن ـ عليه الصــلاة والسلام ـ نابذا للشعر ولا مجافيا له ولكنه وجهه وأنار سبيل سالكه وكان يقول " الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيــحه كقبيح الكلام "[14] وكان يسمع الشعر ويثيب عليه ويستنشد حسان هــجوه لقريش ويقول له " أهجهم وروح القدس معك " كما استمع لشعر كعب بن زهير وخلع عليه وأصغـى بانتباه إلى أبيات من شعر أمية ابن أبي الصلت بلغت المائة بيت في موقف واحد [15] ولعل المـواقف التي أشاد فيها الرسول بالشعر أكثر من المـواقف التي ذمــه فيها ، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا ودما خير له من أن يمتلئ شعرا "[16] كما ورد عنــه في سياق الذم قوله عندما ذُكر امرؤ القيس " ذاك أشعر الشعراء وقائدهم إلى النار " وقد تــكون وراء هاتين القولتين رؤية تتجاوز الشعر إلى موضوعه ففحش امـرئ القيس واستهتاره ، وامتلاء صدور الرواة بالشعر بحيث لا يترك للقرآن والكلِم ال
موضعا أمور لا يحبذها الله ولا رسوله، ولا نذهب بعيدا مع من يقول إن الرسول نظم بيتا أو بيتين يـوم الطائف ويوم حنين ولكننا نقول : إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يزن الشعر وإنما أحرز معناه " وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلا كسر وزنه كإنشاده لبيت العباس بن مرداس السلمي :
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقـــــرع وعيينة[17]
وكان ربما أنشد البيت المستقيم في النادر كإنشاده لبيت ابن رواحة :
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع "[18]
وتكسير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأكثر من بيت من الشعر إنما هو مصداق قوله تعالى " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " إذ " في الآية دفع لشبهة الظن أن الرسول الكريم قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشعر"[19]
إذن فالنبي الكريم لم يرفض الشعر وإنما رفض منه شعر الشعراء المجان الذين يـهدمون القيم الفضلى ، ذلك ما يؤكده استحسانه لقريض حسـان وكعب وعبد الله ابن رواحة ممن أذاعوا في شعرهم قيم الإسلام وتعاليمه واتخذوا ألسنتهم مجنا واقيا له ودرعا دلاصا تحميه من سموم ألسنة الأعداء وحدتها ، وقد نظر خلفاء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الشعر نفس النظرة بل إن من بينهم من تناول الشعر بالنقد ووازن وفاضل بين الشعراء وأصدر أحكاما نقدية ما زالت تدرس إلى اليوم في الجامعات المختصة [20].